جذور الأخبار المضللة..من دعاية الحرب إلى فوضى وسائل التواصل

image
صورة تعبيرية
2023-11-17


كتب : د. محمد الضلاعين 

بعدما استقر اختار الملك هيليوس على بيتيس لتكون زوجته وملكة على مملكته، أخذ العريسان يضعان قائمةً لمن سيحضر الزفاف الملكي العظيم. ضمت القائمة كوكبةً واسعةً من الصفوة في المجتمع، بما في ذلك الآلهة.

وقد نسي العريسان أن يضعا في قائمة المدعوين الآلهة إيريس، والتي حل بها أيما غضب، ووضعت خطةً تجعل فيها العرس السعيد مأتما تتحدث عنه الأجيال. اجتمع المدعوون، وتناقلوا الأحاديث عن الجمال والرفاه، ووسط ذلك كله اخترقت الصفوف تفاحة ذهبية كُتِبَ عليها: للأجمل. كانت تلك مكيدة دبرتها إيريس الآلهة الحاقدة حيث علمت أن الحضور من طبقة الآلهة لن يرضين إلا بأن تكون واحدة منهن هي الأجمل.

انطلقت الآلهة في صراع حتى يأخذن التفاحة، ومنهن ثلاثة: أثينا وهيرا وأفرودايتي. ولحل هذا النزاع، طُلِبَ من الأمير باريس أن ينتقي الأجمل من الآلهة الثلاثة، وبدأت كلٌ منهن تقدم للأمير باريس عطيات ووعود، ولكنه استقر أخيرا على انتقاء أفرودايت بوصفها الأجمل، وما كان هذا إلا بفعل ما وعدته أفرودايت، إذ وعدته بأن تمنحه قلب ووفاء هيلين وهي زوجة ملك سبارتا. 

ترتب على هذا الانتقاء حرب طروادة التي تمتلئ كتب الأساطير القديمة بالحديث عنها بوصفها معلما أدى إلا تغيير في مسارات تاريخية قديمة لا يزال لها تأثير على الأدبيات الحديثة. 

إن الأسطورة أعلاه تمثل حالا يكون فيه إفشاء لأخبار غير صحيحة منطلقا لسلسلة من الأحداث التي قد تؤدي إلى إحداث تغيير في مسار التاريخ، وقد يترتب عليها كوارث ومصائب لا قِبَل للشعوب بها. 

 

الخطأ مقابل التضليل 

تنبثق المعلومات الخاطئة أو الزائفة والانتشار العرضي الهرمي لها من الخطأ في الفهم أو نقص في مقدار أو طبيعة المعلومة المقدمة. وفي مثل هذه الحالات، قد يكون المروج لهذه المعلومات غير مدرك لطبيعة الخطأ في المعلومات، حيث لا يحمل أي نية متعمدة للخداع أو التضليل تبعا لنشر تلك المعلومات. 

وعلى الجانب الآخر، يعتبر التضليل بوصفه فعلًا متعمدًا حيث ينشر المروج للمعلومات أنباءً أو معلوماتٍ كاذبة أو مضللة بقصد لخداع أو إيقاع الضغائن أو ما شبه، فالمسؤولون عن نشر الأخبار المضللة عادةً ما يكونون على دراية بتلك بزيف ما ينشرون ويشاركون في هذه الممارسة ممارسةً فاعلةً وذلك للتلاعب بالرأي العام أو تحقيق أهداف معينة خاصة بهم أو بمنظماتهم أو بفكرهم أو بدولهم.

إن دراسة الإشاعات والتضليل أمر أساسي لفهم الأحداث التاريخية، حيث يتم تسليط  الضوء على كيفية تشكيل وتلاعب بالسرد والمعتقدات والتصورات. وتسمح محاولة دراسة حالةٍ كهذه فهما أفضل لدوافع بعض الأفعال، وديناميات السلطة، والتأثير العميق على المجتمعات والثقافات.

خطر في يد القوى السياسية

استثمرت الحكومات تاريخيًا نشر المعلومات الخاطئة لأغراض سياسية، وذلك مستخدمةً الدعاية لتشكيل السرد والسيطرة على تصورات الجمهور. كما استخدمت استراتيجيات مضادة للدعاية لتشويه سمعة الخصوم وحماية مصالحهم. وقد لعبت المعلومات الخاطئة دورًا في تشكيل توجهات المجتمع والمعتقدات الثقافية من خلال تأثير بالرأي العام، وتعزيز حالات التحيز، وكذلك تعزيز بعض الأيديولوجيات دون سواها، مساهمةً في بناء السرد التاريخي وتكوين الهويات الجماعية.

وفي العصور القديمة، انتشرت المعلومات أساساً من خلال التقاليد المنقولة شفاهةً. وبظهور الكتابة، أخذت شكلا جديدا يتمثل بالنصوص المكتوبة. وقد اتصفت هذه الحالات لنشر الأخبار الزائفة والكاذبة بصفات معينة كبطء انتشار المعلومات، وإمكانية التشويه أثناء نقلها، وكذلك الوصول المحدود إلى ما وراء الحدود المحلية أو الإقليمية حيث تكون النشأة الأولى لهذه الأخبار. 

وتشمل المعلومات الخاطئة في النصوص القديمة أمثلةً كثيرة، منها التضخيم في الإنجازات، والقصص الأسطورية المقدمة للجمهور كحقائق تاريخية، وكذلك التحيز  في تدوين التاريخ. وقد كانت التقاليد المنقولة شفاهةً  عرضة للتشويه بمرور الوقت، حيث تطورت القصص وتغيرت التفاصيل مع مرورها عبر الأجيال.

 

تبرير أفعال السلطة 

وشهدت العصور الوسطى تلاعبًا في الأحداث قام على السرد الديني لتبرير أفعال السلطة السياسية، حيث ارتبط الحكام بالمؤسسات الدينية، مستندين على السلطة الإلهية لتبرير حكمهم، بينما مارست القادة الدينيون سلطاتهم للتأثير في القرارات السياسية أو دعم حكام معينين ولتشكيل رأي الجمهور والعوام بما يحدث في بلادهم. وقد لعبت الشائعات، دورا فعالا في تشكيل الرأي العام، وتعزيز الخوف، والتأثير في الناس لتثبيت السيطرة السياسية للحكام مما أثر بشكل كبير على استقرار المجتمع.

وفي عصر النهضة، شهدنا الظهور الأول للطباعة، وهو الأمر الذي أحدث  ثورة في نشر المعلومات بطباعة وإنتاج الكتب والمنشورات بعدد كبير. وفي الوقت الذي ساهمت الطباعة بانتشار العلم والفكر المتنور، زادت  أيضا مخاطر انتشار الأخبار الزائفة  بناءً على أن المعلومات التي لا تخضع للتدقيق أو المتحيزة قد تنتشر على نطاق واسع. 

ففي عصر النهضة، كانت الدعاية السياسية، وكما يظهر في كتاب الأمير" لمكيافيلي كمثال على ذلك، تهدف إلى التأثير في السلوك السياسي للجماعات والأفراد، وفي العصر التنويري، استخدمت المنشورات والصحف لنشر الأفكار، موغلة في بعض الأحيان بالتضخيم أو التلاعب وذلك لتعزيز الأجندات السياسية للحكام والخصوم. 

 

السرد والتلاعب في الأحداث

ساهمت الطباعة في تعزيز صورة الملكة خلال الحقبة الإليزابيثية في المملكة المتحدة، من خلال تشويهها أحيانا، وكذلك في تعزيز صورة المملكة كقوة عالمية مكلفة بحماية ودفع المجتمع العالمي إلى التمدن.

وشملت الدعاية الاستعمارية تصويرات مبالغ فيها للأراضي المراد استعمارها، حيث ساهمت في تشكيل الرأي المحلي في أوروبا تحديدا لمناصرة العملية الاستعمارية، حيث وعدت الشعوب بالثراء وجلب الأيدي العاملة التي ستساعد في تحقيق النهضة والرفاه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. 

تميزت هذه النصوص بإعطاء تبريرات للتوسع، وتعزيزا للسرد القائل بتفوق ثقافة على أخرى أو عرق على عرق لجذب الدعم من مواطني تلك الدول للمساعي الاستعمارية. وفي القرن التاسع عشر، استخدمت نظريات زائفة غير علمية مثل علم الجمجمة والتعنصرية العلمية لتبرير الممارسات التمييزية، بدون دليل تجريبي أو عقلي أو حتى أخلاقي، إلا عُزِّزَتْ بهدف دعم الأيديولوجيات الاجتماعية والسياسية المتحيزة آنذاك.

 

القرن العشرين 

وننتقل في سردنا إلى القرن العشرين، حيث شملت الدعاية الحربية في هذا العصر مبالغات في سرد ما يقوم به الخصم من ممارسات وشيطنة له وتلاعب بالمعلومات لرفع المعنويات وتبرير الأفعال العسكرية المضادة من طرف ضد الطرف الآخر. 

ومثال آخر في هذا العصر أن الحكومات قامت باستثمار المعلومات الخاطئة للتحكم في تشكيل الرأي العام والحفاظ على الدعم لجهود الحرب. أفضل مثال يمكن ضربه على هذا السياق هو ما جرى خلال الحرب العالمية الثانية، حيث لعبت المعلومات الخاطئة دورًا فاعلا وحاسمًا في تشكيل الرأي العام من خلال الدعاية، بنشر استراتيجي للمعلومات للتحكم في السرد،يات والحفاظ على المعنويات، وجلب الدعم لجهود الحرب. 

وبغض النظر عما يمكن إعطاؤه من آراء، فقد شهدنا في هذه المرحلة حادثة الهولوكوست، ولا نقول هنا أنها كذبة أو حادثة حقيقية، ونكتفي بالتعليق على أن استثمار هذه الحادثة كان حالة استثنائية ساهمت كثيرا في تشكيل الكيان الصهيوني وإعطاء وجوده شرعيةً وتبريرا وحتى أمّنت له دعما يستمر حتى هذا اليوم وحتى لأعوام مقبلة، في كافة الدوائر السياسية والاجتماعية والمالية. 

تشويه الأيديولوجيات

خلال الحرب الباردة، شاركت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي مشاركة فعّالة في حملات تضليل لتحوير التصورات العالمية، سعيًا إلى تشويه الأيديولوجيات المعارضة، والتلاعب بالرأي العام، وتحقيق مزايا استراتيجية. 

في الثمانينات كانت "عملية INFEKTION"؛ حملة تضليل سوفيتية تروج وعلى امتداد العالم لادعاء كاذب بأن الولايات المتحدة قد طورت فيروس الإيدز كسلاحاً بيولوجيًا، وكان هدف الاتحاد السوفييتي آنذاك تقويض مصداقية الولايات المتحدة وخلق الخوف والارتباك.

في عصرنا الحالي، شكل ظهور الإنترنت ثورة في نشر المعلومات، موفرا منصةً للانتشار السريع والعابر للقارات والدول. وفي الحين الذي سهل الوصول إلى قدر ضخم ومهول من المعلومات، سمح أيضًا ظهور الإنترنت بانتشار المعلومات الخاطئة بسرعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية والمنتديات على الإنترنت وكذلك وكالات الأنباء ومواقع نشر المحتوى المسموع والمرئي، وصولاً إلى قاعدة عريضة من الجمهور العالمي، وذلك بسرعة لم يسبق لها مثيل. 

وفي هذا العصر، أصبحت منصات وسائل التواصل الاجتماعي أداة حيوية وفعّالة في نشر المعلومات الخاطئة والتضليل، بما في ذلك المعلومات الكاذبة حول الانتخابات ونتائجها والأزمات الصحية (مثل جائحة COVID-19)، والصور أو مقاطع الفيديو المفبركة التي تهدف إلى خداع الجمهور.

ولا ينكر أحد أن المعلومات الخاطئة تؤثر وبشكل كبير على اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدبلوماسية من خلال تشكيل التصورات وتبرير الأفعال وتلاعب بالرأي العام. وقد يكون لاتخاذ قرارات بناءً على معلومات خاطئة ذات عواقب وخيمة وبعيدة المدى، مما يؤثر على العلاقات الدبلوماسية والاستراتيجيات العسكرية والتطورات الاجتماعية، فقد كان لحرب العراق في عام 2003 والتي استندت إلى معلومات استخبارات كاذبة أشارت إلى وجود أسلحة دمار شامل في العراق،  عواقب جيوسياسية هامة وكذلك فقدان للأرواح وخلق حالة من عدم الاستقرار إقليميا.

جهود مكافحة التضليل 

إن جهود في مكافحة المعلومات الخاطئة تشمل إنشاء منظمات تتكفل بفحص الحقائق، وفحص الادعاءات، والتحقق من المعلومات، وتقديم تقييمات دقيقة للجمهور. وقد أصبح فحص الحقائق أمرًا حيويًا في تعزيز دقة المعلومات ومحاسبة المعلومات الخاطئة في العصر الحالي، حتى أن دورها قد يمتد إلى تقديم فهم أفضل للوقائع التاريخية القديمة وفحصها والبحث عن دليل على صدقها أو كذبها. 

ومع ذلك، فإن التحديات، بما في ذلك الانتشار السريع للمعلومات على المنصات الرقمية واستمرار الإيمان بالسردات الزائفة تستمر في التأثير على المجتمعات المعاصرة، مكونةً حالة من الاستقطاب والتحشيد، ولعل ما تمر به غزة أكبر مثال لحالة احتقان، ينشر فيها طرف أكاذيب ويختلق أمورا كثيرةً لا تصدق في مجملها، وذلك يساهم أيما مساهمة في دفع الناس إلى اعتناق رأي دون آخر، والدفاع عنه حتى بالدم.

إن التحديات المعاصرة في مكافحة الإشاعات تزداد تعقيدا بالنظر إلى سرعة انتشار المعلومات الكاذبة عبر الإنترنت، وصعوبة تنظيم المنصات الرقمية، واستخدام تقنيات متقدمة مثل  deepfakes، بوصفها تقنية  تستخدم الذكاء الاصطناعي لإنشاء مقاطع فيديو واقعية مزيفة، والتي تشكل تهديدًا خطيرًا للمجتمعات حيث يتم التلاعب بتصريحات الشخصيات العامة، وخلق سرد كاذب، وتقويض الثقة في الأدلة الملموسة إن مكافحة تقنية  deepfake  تتطلب حلا تكنولوجياً متقدمة تنشر توعية عامة بين المتلقين تتضمن أدوات تتيح لهم تفحص مدى مصداقية ما يرونه وما يصل إليهم من محتوى مرئي أو مسموع.


 

مخاوف أخلاقية

إن استخدام المعلومات الخاطئة لأغراض سياسية أو اقتصادية يثير مخاوف أخلاقية، حيث ينتج عنه  تقويض للثقة في مصادر المعلومات، وتلاعب بالمشاعر العامة، ويحمل عواقب واسعة النطاق، بما في ذلك إشاعة حالة من الاضطرابات الاجتماعية، وتداعيات للقيم الديمقراطية، وعدم الاستقرار الاقتصادي، وبغض النظر عما كانت لهذه المسلكيات من مبررات، فالاعتبارات الأخلاقية ضرورية لتحقيق توازن في نشر المعلومات وإدراك مدى الضرر المحتمل الذي قد يتسبب فيه تضليل المجتمع والفكر.

خِتاما، إن تقديم فهم للسياق التاريخي للإشاعات يقدم دروسًا مهمة لمعالجة التحديات في الحاضر والمستقبل، حيث يسلط الوعي التاريخي الضوء على الأنماط المتكررة والدوافع والعواقب للإشاعات، مؤكدًا أهمية اليقظة والتفكير النقدي والممارسات الأخلاقية في عصر المعلومات. 

ومن خلال الاستفادة من دروس قدمها لنا التاريخ، يمكن للأفراد والمجتمعات الحصول على صورة أجلى وفهم أكبر  لتعقيدات المعلومات والمساهمة في جعل المجتمع العالمي أكثر إلمامًا بما يجري حوله، وأكثر قوةً في تقصي الحقيقة وتمييزها عن الفبركة والكذب.

 

د. محمد الضلاعين 

محاضر دراسات الترجمة الفورية والتحريرية

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي شييك وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً