كتب : محمد عبد الحليم
تعيش الإنسانية اليوم أحلك لحظاتها وهي ترقب ما يجري للمدنيين الأبرياء في غزة من حرب إبادة، لا تفرق بين طفل وامرأة وشيخ، وفي خضم هذه الجريمة ينبغي أن نتمسّك بقيمنا ومبادئنا ولا ننجرف وراء العاطفة فنقع في الظلم المنهي عنه في كل الشرائع، فقد أمرنا سبحانه بالعدل فقال: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8].
وما حملني على كتابة هذه السطور ما قام به أحد تلاميذ مدرستي بالدعاء على المسيحيين في الطابور الصباحي، وكان زملائي المسيحيين واقفين يستمعون فوقعت في الحرج؛ فما ذنب هؤلاء أن يسمعوا الدعاء عليهم بغير ذنب اقترفوه ؟!
فرجعت إلى القرآن الكريم لأنظر فيه كيف ميّز بين أصناف الناس وفرق بين من عادى المسلمين ومن لم يناصبهم العداء فقد قال سبحانه: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]
عني بقوله تعالى: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ من جميع أصناف الملل والأديان، أن تبروهم وتصلوهم وتقسطوا إليهم، فإن الله عزّ وجلّ عمّ بقوله: الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ جميع من كان ذلك صفته، فلم يخصص به بعضا دون بعض،
فهل من العدل أن نساوي بين الصهيوني الذي يقتل أهلنا بغزة واليهودي الذي يتظاهر في العواصم الغربية رفضاً للعدوان على غزة وقتل المدنيين؟! أم هل من العدل أن نساوي بين زملائنا المسيحيين الذين نتشارك معهم الوطن و يشاركوننا الألم لما يجري لأهلنا في غزة -هل من العدل- أن نضعهم في كفة الحكومات الغربية التي شاركت الصهاينة جريمتهم؟! بل إننا نرى اليوم مئات الآلاف من المسيحيين من دول العالم يتظاهرون لوقف العدوان على غزة، فلا يقبلون تواطؤ حكوماتهم مع الصهاينة.
قال ابن عاشور في تفسير الآية: "ويُْخذ من هذه الآية جواز معاملة أَهل الذّمّة بالإحسان وجواز الاحتفاء بأعيانهم". (2)
"الذّمّة: لغةً العهد، لأن نقضه يوجب الذّم. وفي الشرع: نفس ورقبة لها ذمّة وعهد".(3)
بل إننا نجد القرآن الكريم يبيح أكل ذبائح أهل الكتاب وهم اليهود والمسيحيين، ويبيح الزواج من نسائهم، قال تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [المائدة: 5]
قال القرطبي في تفسير الآية: "والطّعام اسم لما يؤكل والذّبائح منه، وهو هنا خاصّ بالذّبائح عند كثير من أهل العلم بالتّأويل."(4) وفي ذلك توطيد للعلاقات بين المسلمين وأهل الكتاب في المجتمع الإسلامي؛ لكثرة الاختلاط بينهم.
وقد مضى القرآن أبعد من ذلك حين نهانا عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن حفاظاً على مشاعرهم، وحتى لا تتكدر العلاقات بيننا فقال سبحانه: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46]
قال طنطاوي في تفسيرها: "المقصود بالآية الكريمة، دعوة المؤمنين إلى استعمال الطريقة الحسنى في مجادلتهم لأهل الكتاب عموما، ما عدا الظالمين منهم"(5) وقال ابن عاشور: "ووجه الوصاية بالحسنى في مجادلة أهل الكتاب أنّ أهل الكتاب مؤمنون باللّه غير مشركين به فهم متأهّلون لقبول الحجّة غير مظنون بهم المكابرة ولأنّ آداب دينهم وكتابهم أكسبتهم معرفة طريق المجادلة فينبغي الاقتصار في مجادلتهم على بيان الحجّة دون إغلاظ حذرًا من تنفيرهم".(6)
لكن القرآن الكريم أعطى المسيحيين ميزة على اليهود لطبيعتهم المسالمة فقد قال سبحانه: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (*) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 82-83] قال ابن عاشور: "وإنّما كان وجود القسّيسين والرّهبان بينهم سببا في اقتراب مودّتهم من المؤمنين لما هو معروف بين العرب من حسن أخلاق القِسّيسين والرّهبان وتواضعهم وتسامحهم."(7)
وأمام هذه الآيات الواضحات لا نملك إلا تقرير حقيقة قرآنية أكدتها النصوص بأن الله تعالى لا ينهانا عن الإحسان إلى المسحيين المقيمين معنا من زملاء وجيران، وقد أباح لنا مخالطتهم ومشاركتهم الطعام ومصاهرتهم، ونهانا عن أسباب توتر العلاقات بيننا من قبيل الجدال المذموم، ووضح لنا طبيعتهم المسالمة وقربهم من المؤمنين أكثر من غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى؛ فلا مبرر أبداً للإساءة إليهم وإيذائهم بالقول أو الفعل.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي شييك وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً
المراجع:
(1) الكتاب: محاسن التأويل،،المؤلف: محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم الحلاق القاسمي (المتوفى: 1332هـ)،،المحقق: محمد باسل عيون السود،،الناشر: دار الكتب العلميه - بيروت،،الطبعة: الأولى - ج: 9، ص: 207.
(2) ابن عاشور، محمد بن الطاهر، التحرير والتنوير، الدار التونسية، ج: 28، ص: 153.
(3) البركتي، محمد عميم الإحسان المجددي، التعريفات الفقهية، دار الكتب العلمية، ط: 1، ص: 100.
(4) لقرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح، الجامع لأحكام القرآن، (تحقيق: أحمد البردوني، وإبراهيم أطفيش)، دار الكتب المصرية، ط: 2، ج: 6، ص: 76.
(5) طنطاوي،محمد سيد، التفسير الوسيط، ج: 11، ص: 45.
(6) ابن عاشور، محمد بن الطاهر، التحرير والتنوير، ج: 21، ص: 6.
(7)ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج: 7، ص: 7.