د. محمد الضلاعين
ترك فيرناندو بيسوا إرثا عظيما خلّدته أهميته، ولعل من أعظم ما قال: إن الأدب الأداة الأقوم لتجاهل الحياة. إن كنت ممن شرعوا جادّين في تجاهل الحياة ففي قول بيسوا عزاءٌ لك، وإن نحّينا قوله جانبا فسنكون ممن يرفضون تجزئة الإبداع بفصله عن الواقع، والواقع هنا ليس أجدى من أن يكون الحياة.
الأدب يزخر بالحياة، يصورها، يمثلها بأقبح ما فيها وبأجمل ما فيها، لعلها قيمةٌ تجعل من الأدب مبتغى كل مريد، عالما أو راهبا أو حتى رضيعا. ولا نُقصي هنا حقيقة أن الأدب أداة، أداة لمآرِبَ كثيرة، منها الشرعي ومنها الشيطاني، ولنا في اتخاذ الأدب كأداة لتضليل الجماهير مثال قويم.
الواقع والتزييف الإبداعي في منظور الأدب
أدت حالات تقاطع فيها الأدب والتضليل المتعمد إلى ابنثاق حالات بارزة تُظهِر تعقيدات تنشق فيها كل الانشقاق الحقيقة عن الخيال. تتمثل واحدة من هذه الحالات في رواية "شيفرة دافنشي" لدان براون، حيث يمزج الكاتب بشكل يصعب ملاحظته بين الأحداث التاريخية الحقيقية والعناصر الخيالية. وعلى الرغم من تصنيف هذه الرواية كأدب خيالي، إلا أن ادماجها لتفاصيل تاريخية حقيقية يمكن أن يؤدي إلى تصوير بعض الأحداث كما لو كانت حقيقية مما ينتج عنه ترويج حالات للتضليل حول الأحداث التاريخية وكذلك تعقيدات دينية كثيرة وغاية في الحساسية. وعليه، فيشكل عمل براون هذا حالة يصعب فيها التمييز فيها بين الواقع والتزييف الإبداعي في منظور الأدب.
وتسهم الأغلوطات الواردة في النصوص الأدبية وكذلك الاقتباسات المختلقة والمنسوبة إلى شخصيات ذات ثِقَل تاريخي أو ديني أو سياسي أو ما شابه في انتشار الأغاليط والتضليل ففي كتاب "الانهيار: كيف تختار المجتمعات الفشل أو النجاح"، ينسب جاريد دايموند اقتباسًا إلى توماس جيفرسون، مما أدان عمله بتهمة عدم الدقة التاريخية وإيراد للمعلومات المضللة. إن من الواضح وحسب لشواهد التاريخي فإن هذه المغالطات إن لم تُعالَج فستؤدي إلى كثير من المتاعب التي قد تنشئ حالةً من الاضطراب الاجتماعي أو حتى بين صفوف النخبة التي نفترض بها أن تكون على اطلاع بما عليه هذه التفاصيل.
السردية التحذيرية
ولا يخفى على المطلعين على الأدب أن القصص الخيالية بحد ذاتها لها تأثير على تصورات المتلقين، وفي أحيان تؤدي إلى ما تُحمد عقباه، ففي عمل "1984" لجورج أورويل، يعتبر العمل مثالا نابضا على الكلاسيكية الديستوبية، بوصفها سردية تحذيرية تعطي تصورا عن الكيفية التي يمكن أن يُعبث الحقيقة. وعلى الرغم من أن هذا العمل عمل خيالي، إلا أن كان لديها القدرة منذ إصدارها على تشكيل مفهوم لوجدانيات الأنظمة الاستبدادية. ومع ذلك، إذا ترتب عليها فهم خاطئ فإن مساهمتها في نشر التضليل حول الأنظمة السياسية، وهي حالة يظهر فيها ضرورة الموازنة بين المقاربة الأدبية وإساءة الفهم غير المحمود.
وأما في هذا العصر، العصر الرقمي، يُطرح انتشار المعلومات بصورة خاطفة وسريعة تحديات جديدة. فيمكن أن تجد الأساطير والخرافات طريقها عبر الإنترنت وتوظيفها المحموم في الأعمال الأدبية إلى المتلقين، مساهمةً وعن غير قصد منها في نشر المعلومات الزائفة. وفي هذا الصدد، تقع المسؤولية على عاتق الكُتّاب والقرّاء على حد السواء للخوض في هكذا سياقات متوثقين من ضرورة فهم الحدود بين الخيال والواقع وضرورة فحص ما قد يبدو حقيقةً قبل تداولها، فيتحمل الكتّاب مسؤولية كبيرة في إجراء بحث دقيق وتحقق عميق من الحقائق، خاصة عند دمج عناصر العالم الحقيقي في أعمالهم الأدبية. اتباع آلية كهذه لا تحافظ فقط على النزاهة المنشودة للحرفة الأدبية ولكنه يحمي أيضًا من انتشار التضليل بطريقة غير مقصودة.
أما القرّاء فيلعبون دورًا حيويًا في الممايزة بين الواقع والخيال. ولعل تطوير مهارات التفكير النقدي من أهم الأمور في هذا الصدد لتقييم المعلومات المقدمة في الأعمال الأدبية، فالتفاعل مع الأدب بقدرات نقدية واعية يسمح للقرّاء بطرح التساؤلات والتحليل، والتحقق، مما يسهم في فهم أكثر. ويمكن أن يكون هذا الوعي المتزايدة درعًا ضد نشر المعلومات الزائفة بطريقة غير مقصودة.
وتزداد الأمور تعقيدًا عند دراسة تأثير التضليل على تصورات المجتمع. ففي بعض الحالات، اتُهمت الأعمال الأدبية بالمساهمة في تعزيز الصور النمطية. وعلى سبيل المثال، انتُقِدَتْ بعض الروايات الاستعمارية لتعزيزها السرديات الأوروبية التي تشوه حقائق الاستعمار. يبرز هنا ضرورة فهم العواقب المحتملة للتضليل في الأدب، حيث يتطلب فحصًا دقيقًا للتأثيرات الاجتماعية المضمنة في هذه السرديات.
وفي الختام، يتطلب تزاحم الإشاعات والتضليل في الأدب نهجًا متعدد الأوجه. فيجب على الكتّاب تبني التزامًا أخلاقيا واعيا بالدقة والشفافية، في حين ينبغي على القرّاء تنمية مهارات التفكير النقدي للتنقل في تعقب المعلومات المقدمة في الأعمال الأدبية.
للأدب دور عظيم في نقل الثقافات ونشر الوعي الحضاري، وفي حال انحرف عن هذا النهج فإن فكرا قد يبنى على انحراف كهذا، وسيبقى العمل الأدبي العظيم للكاتب الجنوب إفريقي كوتسيا مثالا عظيما، ففي روايته بانتظار البرابرة يصور مشاقّ الخضوع إلى الاستعمار، ويصور حالة يعي فيها صاحب الأمر والنهي في قرية ما بما يجول من مظالم، وهنا يتحول هذا الحاكم إلى صف المستعمَر بعدما كان لواءً للمستعمِر، وهنا تدليل ساطع على أن الأدب قد يكون معول هدم لقيمة إنسانية جلية وقد يكون يدا تبني فكرا عظيما إنسانيا تذوب فيه الفوارق وتنتشر الحقيقة، ولا شيء سوى الحقيقة.
د. محمد الضلاعين
محاضر دراسات الترجمة الفورية والتحريرية
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي شييك وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً