كتب : د. محمد الضلاعين
أحياء هادئة هانئة، فقيرة لكنها مسالمة، يعم الهدوء المكان، وربما كانت هذه الأحداث أقل تأثيرا لو أنها لم تكن بعد كساد عظيم عميم. الجميع مستتر في مأواه: بيتا، متجرا، عملا مسائيا … مسرورين ببساطة الحياة، مبهورين قليلا بقفزات بلادهم وسط عالم رأسمالي، مترقبين برهبة اقتراب حرب عظيمة ستقتل ٣٪ من سكان هذه البسيطة البائدة، إلا أنهم راضون بما تجلب إليهم الحياة، وعلى أدنى تقدير جلبت لهم وسائل الإمتاع كالمذياع أو ما كان يسميه الأقدمون صندوق العجائب، وربما تجادلنا أيها القارئ بأن تصفه بصندوق الرهائب بعد إتمامك هذا المقال.
بالعودة إلى تلكم الأحياء، عائلة متوسطة الحال تسكن حيا متوسط الحال، في أطرافه الفقر وبعد تلك الأطراف الفقر كله، حي كالحياة ذاتها، تجعل في بؤرتها أصحاب الحظ وتنحي إلى الأطراف العامة، أو من يُسَمَون بالعامة. وكما يعلم الجميع، فالزجاج يتهشم من أطرافه أولا، وكذلك المجتمعات. وبصندوق العجائب كانت كل العجائب. ففي الثلث الأول من القرن العشرين بدأت أدوات الإمتاع تتخذ شكلا جديدا، ابتداءً بالأقراص الصوتية الكبيرة وانتقالا إلى المذياع، وقد كان هذا الأخير مَجْلَبا للجميع، كان صوتا يغطي على صوت الجميع في المقاهي، ويتحلق الناس في كل حين من حولِه، وأولئك ال١٢.٣ مليون شخص في الولايات المتحدة وحدهم شكلوا غيض من فيض من المستمعين حول العالم.
فلننغمس في الخيال قليلا، وأنت نسألك أن تجول في خيالك الرحب للحظات. عائلة مكونة من خمسة أفراد، متوسطة الحال محبوبة محبة، اجتمعت للعشاء بعدما عاد رب الأسرة محملة بأطايب ما يجلبه متوسطو الحال في الكون كله. اجتمعت العائلة في ليلة الثلاثين من أكتوبر سنة ١٩٣٨ واجتمع كذلك القضم بالرشف ولم يَعْلُ صوتٌ على صوت القضم والرشف سوى صوت المذياع! بدأ تسلسل المحتوى الإذاعي كانسياب رمل رائق، خلا من كل شيء سوى الرمل، وفي لحظة مُسِخَتْ حبات الرمل حتى تخللها حصا ثم حجارة ثم صخرة. اتخذت الأحداث المسرودة إذاعيا منحى آخر، العائلة المزدحمة أيديها على الأكواب والصحون توقفت لتستمع للمذياع:
- المذياع موجه إلى تردد إذاعة سي بي إس الأمريكية المشهورة آنذاك.
- انبعث من المذياع صوت المذيع الشهير فريد ستيوارت، أعلن بعض الإعانات التقليدية التي بالكاد يهتم لها أحد.
- تبع صوت المذيع مقاطع صوتية متعددة، في أغلبها يظهر صوت البيانو بموسيقى رائقة هادئة.
- انقطاع مفاجئ للموسيقى، علاه زمجرة في صوت المذيع المعروف آنذاك بصوته الجهوري، هاوارد كوتش، معلنا عن انفجار تم رصده على سطح المريخ.
- تلا ذلك تعليق من البروفسور فاريل بوصفه عالم فضاء معروف معلقا على أسباب الانفجار على سطح المريخ وما قد يعقب ذلك من أحداث. رواية البروفسور فاريل جعلت الناس منغمسين أكثر فيما يستمعون إليه.
- تلا ذلك موسيقى أوركسترا من جديد.
- تلا ذلك الإعلان عن غزو المريخيين للأرض، وسرد متسلسل للانفجارات وحالات من الرهبة والخوف التي عمت الولايات المتحدة في مجملها.
- بعد انقضاء البث، يختم المذيع بالقول: أتمنى لكم ليلة هالوين هانئة!
في اليوم التالي: انطلقت وسائل الإعلام لنشر الكثير من الأحداث التي تشير إلى عمق ما أحدثته تلك الدراما الإذاعية في المجتمع الأمريكي، فجرى الحديث عن حالات ازدحام على أبواب الملاجئ وحالت رعب ورهبة سادت الولايات المتحدة، وعن خروج الناس وهيامهم في الطرقات دون سبب. هذا بدوره عَمَّق من تأثير الحالة هذه من التضليل بصهر الحقيقة والخيال معا.
- لماذا نجحت أكذوبة ولز في التضليل؟ الأسباب عديدة، نذكر منها:
- تضمين مؤثرات صوتية متميزة تحاكي السرد القائم في القصة لغزو المريخيين للأرض.
- وضع القصة في إطار برنامج إذاعي متكامل يحتوي على تقارير إذاعية كاذبة ونشرات إخبارية وتغطيات كلها تتركز حول محتوى غزو المريخيين.
- حتى الموسيقى ساهمت في تعميق انصهار الحقيقة والتضليل معا، حيث استخدم أداء أوركستراتي فيه نبضات موسيقية عميقة تنشر الرعب والانزعاج بين المستمعين.
- تضمين شهادات من شهود عيان أثناء البث الإذاعي مما جعل من المحتوى أقرب للتصديق.
وعلى الرغم من أن باحثين يوردون أدلة على أن الترهيب الذي شاع في عموم الولايات المتحدة تم تضخيمه وقد كان فعليا أقل من ذلك بكثير، مدللين على ذلك بضعف التغطية الإذاعية آنذاك وأن كثير من المستمعين لم يستمعوا إلى البث بكامله، إلا أن ما فعله أورسون ولز ورفاقه كان رائعا وبغيضا ومتفردا في آن معا. كشف ورفاقه في عملهم هذا عن هشاشة المجتمعات وضعفها أمام التضليل وعجزها عن التمييز بين الحقيقة والواقع. كشف ورفاقه عن انقضاء زمان الأمن المجتمعي بحلول النهضة وما بعد النهضة، فأن يخترق أدب محاكاتي بنية المجتمع ويؤدي إلى ما أدى إليه أمر عظيم وجلل. وقد كثرت التأويلات لهذا الأمر، فمنهم من رأى فيها دعوةً إلى تقوية المجتمع، ومنهم من رأى فيها إشارة إلى أن وسائل الإمتاع هي وسائل تجهيل، تجعل الفكر مسطحا ويصدق أيما شيء طُرِحَ عليه.
دروس مستفادة
الدرس الاول يتركز حول تأثير وسائل الإعلام، أو ما أسميناه بدايةً وسائل الإمتاع. فقد برز دورها كأداة قادرة على التأثير في الناس وخلق تأثير جماهيري ممتد على كافة الفئات من الشعوب، ويتساوى في ذلك الفقير والغني والمثقف والأمي ورجل الأعمال والجندي. فبالرجوع إلى حرب العوالم لأورسون ولز، فقد كانت التأويلات الكثيرة، فمنهم نسبها إلى سخط إلهي وبالتالي أرجعها إلى مرجع ديني، ومنهم من نسبها إلى حالة من توتر النظام الكوني وبالتالي أرجعها إلى مرجع علمي، ومنهم من أرجعها مرجع فلسفيا بحت، وهذه المرجعيات كلها تشير إلى ضعف المجتمع في وجه انتشار الأغلوطات التي تروج لها وسائل الإعلام وغيرها. المجتمعات الحديثة مجتمعات هشة مسطحة، يسهل تشكيلها ويغيب عادةً المنطق عنها.
الدرس الثاني يتلخص في أن المحتوى المروج له والذي يغلب الظن على كذب محتواه يشكل حالة ثقافية تشير إلى ضرورة تنقية وترقية المحتوى الذي يتلقاه المتلقون فاستهلاك المعلومة مسؤولية فردية جماعية، كما هو حال إنتاجها، فالناشر مسؤول والمتلقي مسؤول كذلك، وبينهما تعقيدات كثيرة منها اقتصادية ومنها مجتمعية وإلى غير ذلك.
د. محمد الضلاعين
محاضر دراسات الترجمة الفورية والتحريرية
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي شييك وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً
المراجع:
تاليا رابط الحلقة كاملة الخاصة بحرب العوالم:
https://www.youtube.com/watch?app=desktop&v=d-kXoz8E7HY
يوثق لتأثيرات العمل هذا على المجتمع والثقافة وسايكلوجيا المجتمع والمستمع:
https://www.amazon.com/Panic-Broadcast-Welles-Legendary-Invasion/dp/0380005018
تاليا صورة للمنشورات المتعلقة بالحدث آنذاك:
تاليا تقرير إحصائي قام به مركز برينستون حول التجربة الرهيبة التي عاشها الأمريكيون في ليلة الهالوين تلك:
https://powerbase.info/index.php/Princeton_Radio_Research_Project
صورة للمخرج: