متاهةُ الذكريات رحلةٌ في دهاليز التضليلِ

image
©motherforlife
2024-02-13

كتب : د. محمد الضلاعين

كُنّا صغرا، التزمنا الطريق القويم، إلا أنهم لم يكونوا منعمين علينا نظير استقامتنا، وبادلونا بدلا من الاسترضاء غضبا، ومن ثم تضليلا. نحن في مجتمعاتنا نُضَلَّل من اللحظة الأولى، ونُمْنَع عن استقصاء حقائق الأشياء من اللحظة الأولى التي نُرْسَل إلى الحياة، وما أن تملأ صرخاتنا المكان وكأننا نعترض على استجلابنا الحياة دون قرار، فيشرع هذا بالنصح، وتلك بالإرشاد، وهؤلاء بالوعظ عن كيفية الاعتناء بالوليد، أما الأدهى فتلك الكوفلية، وكأنها أطواق تعانق الرضيع لا حُبّا بل استنكارا لمحاولته استكشاف العالم اللارحمي. هنا سأسرد لكم ملامح، ولربما ملاحم من ذكريات الطفولة عن التضليل ونشر المعلومات الخاطئة ، سواءً أكان ذلك متعمدا أو عن غير قصد، فكلاهما دفع فينا تشكيل شخصية، ابتدأت من بذرة ترابها التشكيك والتضليل.

كعكة العيد التي لم تأتِ أبدا كانت شاهدا على تضليلٍ أَبَويٍّ مغفور له، كثيرون يعدون أبناءهم بكعكة عيد ميلاد كبيرة، ثم ينسون أو يتناسون ، إلا أن ذلك تضليل ولربما يقترب أكثر إلى الكذب، وأما ذلك الأب الذي ضلل ابنه بوعود خدّاعة لكعكة السحرية لعيد ميلاهده، فيقينا كان مُضَلَّلا عندما كان صغيرا، وانتهج أسلوب عايشه ذاته، وهذا انتقام من الماضي، إلا أن انتقاما كهذا ليس إلا لَبِنةً إضافيةً تبنى في صرح من الكذب، يعلوه التضليل ويتوسطه الخداع وأما قواعده فأكذوبة صغيرة على طفل نمت وأصبحت ما ترون.

كنا صغارا في مدرسة داخلية، أوهمونا تضليلا أن الجبن الذي تقدمه المدرسة على وجبة الفطور لذيذ، إلا أنه اجتمعت فيه معالم الرداءة وسوء الطعم، حتى أضحى ذا مضاقٍ خنزيري ممقوت، وبلغ الحد فيي أنني أقنعتُ نفسي مضلِّلا إياها بأن تلك الملوخية اللعينة الرغوية اللزجة التي داوموا على إطعامنا إياها في المدرسة الداخلية ليست إلا كنافة، ذلك ليسهل علي أكلها رغم أنني أرى عجزا في معرفتي باللغة السوقية  في وصفها. وهنا أحزن قليلا، وأقول انهم أوروثني كرها للملوخية، وكذلك ميراثا ثقيلا يحيطه عارٌ خفي بأنهم لم يضللونا فحسب بأن ملوخيتهم وجبنهم لذيذ، بل أيضا نحن ضللنا أنفسنا فأقنعناها مضللين إياها بأنها كنافة!

وفي الأيام الأولى لأخي في المدرسة، كان يداوم على تردير إذاعته المدرسية: هل تعلم أنه إذا حطت ذبابة على أذن فيل فإنه يموت؟ تضليل علمي لا يستقيم، ولم نعلم صدقه إلى بحلول جوجل فينا، ويا حسرةً علينا إذ كنا جُهّالا قبل جوجل ثم علمنا جوجل.

وفي يومي الأول في المدرسة، تعهدت السيدة ذات الرداء الأزرق وكذلك ذات الرداء الأخضر بأن أبي سيعود بعد قليل ليأخذني إلى البيت، إلا أنه لم يعد لأسبوعين! قاسٍ هو التضليل، تذكره فربما تضحك، إلى أنك لا تنساه، تذكره في غصة تعلوها ابتسامة.

ضللونا فأوهمونا أن الطابق الرابع في السكن الداخلي مسكون، وزرعوا فينا حكايا عن مخطوفين وملبوسين ومُسوخ، لعلهم جميعا وهمٌ، لأن القلة القليلة التي كانت تغير على الطابق الرابع كانت تعود كما ذهبت، إلا أن تضليلهم كان مستديم التأثير حتى رغم وجود الدليل على كذبه. وفي هذا ظاهرة علينا الانتباه إلينا، فرغم وجود الأدلة التجريبية على كذب حالة تضليل، إلا أن تأثيرها لا يتوقف عن الدفع بالناس إلا الخوف والريبة، وربما يكون هذا ميلا سايكولوجيا داخلنا كبشر ان التضليل ليس أمرا نصدقه أو نكذبه، وليس أمرا يُضْحَدُ بأدوات التوثيق، وإنما هو حالة سايكولوجية بدايةً يجب معالجتنا منها قبل كل شيء.

ثم مشهد آخر لي تحت ستة أضواء وثلاثة من الطاقم الطبي، ربما كان ثلاثتهم الأكثر تضليلا، وعدوني بأن الحقنة التي تكون قبيل نومي لعملية جراحية ستكون كتأثير قرصة النحلة، صرخت: لكن قرصة النحلة تؤلم! لم يردوا بشيء، باشروا عملهم إلا أن تضليلهم كان مزدوجا سلبا وإيجابا معا بأن ألم الحقنة كان خفيفا بالكاد شعرتُ به وهم الذين شبهوه بقرصة النحلة، ثم أنهم قبل العملية الجراحية وعدوا أن تتغير الأحوال إلا أنهم كذبوا وضللوا ففشلوا أيما فشل،ثم تضليل رب العمل بأن البيئة المعمول بها تستوفى فيها كل الضوابط المهنية، فلا ترى مهنية ولا ضوابط، أما النتيجة فخذلان لكل عوامل الإنتاجية وتعثرٌ مقيتٌ للأحلام العملية والرقاء بالمؤسسة، وكله لأنهم ضللونا بالزيف والكذب.

 

كانوا يخيفونا بأشباح وأسماء وهمية للنام باكرا، لنتوقف عن البكاء أو الإلحاح، زرعوا فينا تضليلا نما وأصبح جيشا من التضليل فينا نتمثله ونتخذه أساسا في الحياة. ربما أصبحت أدوات التدليل جزءا من شصية المواطن العربي، حتى أضحى ضرورةً أن ندرسها وأسبابها الموروثة.

ثم ضلالٌ أكبر، بأن يكون الحلم أن العمر لا بل الدنيا والآخرة مجتمعتين ستكونا فردوسا أزليا، سعادة لا انقطاع فيها، فيأتي الرد أن: لا مِساسَ ولا سعادة، إنما هو تضليل على تضليل، فإما أن ترضخ أو ترضخ.

تُضَلِّلُنا وتكذب كثيرا أخبار متقطعة من حين إلى حين حول أحداث تعنينا، نترقبهها كثيرا، نترصد مولدها، نأمل بأن تغيرنا وتغير ما حولنا ثم يأتي التضليل بأن الواقع دائما خانئ فلا نستوفي شيئا من تلك الأخبار سوى برهة سعادة سريعة الزوال.

نحن لسنا أمةً جاهلة، لسنا أمة ملعونة بسبب عصيان أو كفر، نحن أمةٌ مُضَلَّلة تكذب كثيرا،تغزونا عصبية وحمية جاهلية، نكذب على الرضيع ونضلله فنقول: شوف العصفورة! ثم نخدعه بإسقاط تحميلة في أغلى ما يملك، نكذب على الأرملة بإخفاء رحيل الرفيق الادنى إلى الأعلى، نكذب على الطير لِنَقْنُصَهُ، إلا أن الامل ما زال قائم بأن نعود نحن ضلالنا ونتمسك بِعُرىً تركناها، وإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا.

 

د. محمد الضلاعين

محاضر دراسات الترجمة الفورية والتحريرية

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي شييك وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً