شييك: ريما حسن
تترك مشاهد المعاناة والدمار أثرًا عميقًا، يتزايد معه الإرهاق الوظيفي يومًا بعد يوم. يجد الصحفيون أنفسهم مطالبين بتغطية الأحداث بحيادية واحترافية رغم تصاعد مشاعر الإرهاق النفسي والجسدي، وتراكم الضغوط محاولين التكيف مع الصدمات المتتالية التي تمر أمامهم.
في ظل الحرب التي تشهدها غزة ولبنان، يواجه الصحفيون ضغوطات قاسية تعكس صعوبة العمل في قلب الميدان. فعلى الخطوط الأمامية، يحمل الصحفيون واجب نقل الحقيقة وسط مشاهد العنف. لكن هذا الالتزام يأتي بكلفة نفسية وجسدية باهظة.
هذا المقال هو جزء من حكايتي مع زميلاتي وزملائي في منصة "شييك". وما نواجهه كل يوم محاولين بشجاعة أن نواكب الأحداث المتسارعة، نتنقل بين الأخبار والتقارير المتدفقة حول الحرب والدمار، وندقق في الادعاءات بدقة عالية بين ركام الأخبار.
هناك لحظات نتوقف فيها لالتقاط أنفاسنا وسط ضغط العمل، نتشارك فيها مشاعر القلق والإرهاق، ونستمد العزيمة من بعضنا البعض للمواصلة. نعلم أننا نحمل على عاتقنا مسؤولية نقل الحقيقة بدقة وشفافية، وأن أصواتنا يمكنها أن تسهم في رسم صورة أوضح للعالم الذي نعيش فيه، رغم كل الصعوبات التي تعترض طريقنا.
صحافيون تحت الضغط
في الآونة الأخيرة أدت الحروب والصراعات في المنطقة إلى إدخال ضغوطات جديدة على المهنيين، في معظم المجالات. وبعض العاملين معرضون بشكل أكبر لهذه الضغوط من غيرهم بسبب طبيعة ومكان عملهم. وغالبا فإن العاملون في ظروف الطوارئ مثل الصحفيين والأطباء وفرق الإنقاذ يعملون في وظائف تنطوي على خطر تعرضهم بشكل أكبر لأحداث سلبية يمكن أن تؤثر سلبا على الصحة النفسية.
وبالتحديد فإن العاملين في مجال الصحافة معرضون لخطر أكبر من التوتر والإجهاد المهني خاصة مع استمرار تغطيتهم للدمار والتعامل مع مشاهد المعاناة. ولما للصحفيين دور كبير في إيصال الحقيقة للعالم ودورهم في محاربة التضليل إلا أن هذا الدور يضيف عبئًا نفسيًا متزايدًا على عاتقهم. ومع تعمق الحروب واستمرار الضغوط ، يتحول العمل الإعلامي إلى مصدر توتر مزمن له آثار كارثية على صحتهم النفسية والجسدية. وفي هذا المقال سوف نلقي الضوء على أهم عوامل الخطر التي تساهم في تفاقم الإرهاق الوظيفي لدى الصحفيين وتأثيراته.
ما هو الإرهاق الوظيفي؟
وفقًا لمنظمة الصحة العالمية (WHO)، يُعرف الإرهاق الوظيفي كمتلازمة يتم تصورها على أنها ناجمة عن ضغوط مزمنة في مكان العمل لم يتم إدارتها بنجاح. وتتميز بثلاثة أبعاد:
• الشعور باستنزاف الطاقة أو الإرهاق.
• زيادة المسافة العقلية بين الشخص ووظيفته، أو مشاعر السلبية أو السخرية المتعلقة بوظيفته.
• انخفاض الكفاءة المهنية.
متلازمة الإرهاق الوظيفي
في عام 2019 قامت منظمة الصحة العالمية (WHO) بتصنيف الإرهاق الوظيفي كمتلازمة وأضافته إلى التصنيف الدولي للأمراض (ICD-11) كظاهرة مهنية تتعلق بمكان العمل وتؤثر على الصحة النفسية. هذا الإدراج تم في قسم خاص بالعوامل المؤثرة على الحالة الصحية أو الاتصال بالخدمات الصحية ، وهو قسم يشمل أسباب تواصل الأفراد مع الخدمات الصحية، لكنها لا تُعتبر حالات طبية بالمعنى التقليدي.
عوامل التعرض للإرهاق الوظيفي لدى الصحفيين
أظهرت الأبحاث أن الإرهاق الوظيفي لدى الصحفيين يمكن أن يكون ناتجًا عن مجموعة من العوامل المختلفة. من بين هذه العوامل زيادة عبء العمل، الشعور بعدم القدرة على التحكم في مهام العمل أو الجدول الزمني، خاصة في بيئات العمل التي تتطلب سرعة في الأداء ونشر الأخبار، فضلا عن شعور الصحفيين بعدم العدالة والمساواة في مكان العمل.
تعتبر ظروف الحروب والأحداث العنيفة بيئات خصبة للمشكلات النفسية. حيث يعاني الصحفيين الذين يعملون في مناطق النزاعات المسلحة والحروب من مستويات عالية من الإرهاق الوظيفي. ويعود ذلك إلى التعرض المتكرر والمطول للأحداث الصادمة والعنيفة مثل مشاهدة الدمار والموت والمعاناة باستمرار، التوتر الناتج عن نقل الحقائق بدقة وحيادية وتغطية الأخبار في بيئات عالية الخطورة، مما يزيد من التوتر النفسي.
دراسة نشرت في موقع Journalists' Resource أظهرت أن الظروف البيئية التي تشمل تهديدات السلامة الشخصية والهجمات المباشرة من قبل الأطراف المتصارعة، مثل مصادرة المعدات أو التعرض للهجمات، تؤدي إلى مستويات مرتفعة من الإرهاق الوظيفي.
كما تشير مقالة أخرى بعنوان الصحافيون تحت الضغط.. ما الحل؟ إلى إن عدم وجود الدعم الكافي من المؤسسات الإعلامية، مثل التدريب على كيفية التعامل مع الصدمات وتوفير الموارد النفسية ينعكس سلباً على الصحة النفسية للصحفيين.
تأثير الإرهاق الوظيفي على الصحفيين
أكدت الجمعية الأمريكية لعلم النفس على وجود إرتباط وثيق بين الإرهاق الوظيفي في مكان العمل ومجموعة من المشكلات المهنية والنفسية والجسدية السلبية بما في ذلك الغياب المتكرر عن العمل، عدم الرضا الوظيفي، الاكتئاب، الصداع، الأرق، ضعف العمليات العقلية المعرفية.
وبالنسبة للصحفيين خاصة الذين يغطون أحداث الحروب والنزاعات فقد يسهم الإرهاق الوظيفي في تطور حالات من القلق والاكتئاب، بالإضافة إلى اضطرابات ما بعد الصدمة (PTSD). ). وفقًا لدراسة قام بها مركز دارت (Dart Center) فقد أظهرت أن التعرض المستمر للأحداث العنيفة يمكن أن يتسبب في صعوبات نفسية طويلة الأمد والتي قد تؤثر على جودة العمل الصحفي ويؤدي إلى فقدان الدافع والحماس، وهو ما يجعل الصحفي أقل قدرة على تحمل ضغوط العمل، مما قد يتسبب في تدهور الأداء المهني.
ولا يقتصر تأثير الإرهاق الوظيفي لدى الصحفيين على الجانب النفسي فقط، بل يمتد إلى الصحة الجسدية، وتتضمن الصداع، اضطرابات النوم، التعب المزمن، السكري، مما يؤثر على أدائهم وقدرتهم على العمل بفعالية.
وبسبب ارتفاع التوتر والضغط النفسي فقد يحدث توتر في العلاقات بين الصحفيين وزملائهم وعائلاتهم فقد يعاني الصحفيون من صعوبات في إدارة علاقاتهم الشخصية بسبب الإرهاق المستمر، كما توضح الأبحاث المنشورة في The Dart Center for Journalism and Trauma والتي تشير إلى أن هذا التوتر يمكن أن يؤثر على شبكة الدعم الاجتماعي للصحفيين
استراتيجيات الوقاية والعلاج " شييك نموذجا"
من المهم اتخاذ استراتيجيات فعالة للتعامل مع الإرهاق الوظيفي للتخفيف من آثاره الكارثية على صحة الصحفيين النفسية والجسدية. فمن خلال عملي كأخصائية نفسية مع العاملين في منصة شييك لتدقيق المعلومات لاحظت آثار الإرهاق الوظيفي العميقة على أعضاء الفريق، سواء الصحفيين العاملين في مناطق النزاع أو أولئك الذين يغطون الأخبار عن بعد. حيث عبر بعضهم عن شعورهم بالخوف وعدم القدرة على التركيز في العمل. كما ذكر أحدهم أنه يتعامل مع الإرهاق والتعب بالهروب إلى العمل، مما يزيد من معاناته دون معالجة الأسباب الجذرية.
ولاحظت من خلال حديثي معهم أنه تظهر عليهم علامات الاكتئاب، حيث أشاروا إلى مشاعر اللامبالاة التي تتسلل إلى حياتهم اليومية، بينما أشار آخرون إلى أنهم يتعرضون لضغوط نفسية تؤثر على حياتهم الشخصية نتيجة مشاهد الدمار والمعاناة التي يرونها بشكل متكرر.
لذلك، كان من الضروري تقديم دعم نفسي مناسب للفريق، حيث قمت بإجراء جلسات مركزة تهدف إلى مساعدتهم في التعامل مع هذه الضغوطات. حيث تم تقديم الدعم بشكل فردي وجماعي. تعد هذه الجلسات مساحة آمنة لهم للتعبيرعن مشاعرهم وتجاربهم، مما ساهم في تعزيز شعورهم بالراحة والأمان. حيث تضمنت هذه الجلسات تدريبهم على تقنيات التنفس العميق لمساعدتهم على تخفيف التوتر النفسي والجسدي. كما شملت الجلسات تمارين تهدف إلى مساعدتهم على فهم تأثير أفكارهم على شعورهم، هذا الإدراك يساعدهم في التخفيف من شعورهم بالذنب لعدم قدرتهم على تقديم العون لإيقاف الدمار والمعاناة.
كيف يمكن دعم الصحفيين نفسياً
خلال تجربتي مع الزملاء/يلات في فريق "شييك"، أضع بين أيدي الصحافيين مجموعة من الاستراتيجيات التي يمكن أن تدعمهم في مواجهة الضغوط النفسية الناتجة عن مشاهد الصراع والتوترات اليومية ، وتساعدهم على التعامل مع الإرهاق الناتج عن متابعة الأخبار الصعبة ومشاهد الصراع المستمرة، وتخفيف من تأثيره.
أولا: أشجّع الصحفيين بتخصيص وقت للتفكير في مشاعرهم واستجابتهم اتجاه لتجارب العمل، هذه الخطوة مهمة لفهم التأثيرات النفسية للعمل في ظروف صعبة، ويمكن أن تساعدهم في تحديد الضغوطات التي تحتاج إلى معالجة.
ثانيا: تساعد تقنيات الاسترخاء والتنفس العميق على الشعور بالهدوء وتقليل مستويات التوتر، مما تسهم في تحسين الحالة النفسية.
ثالثا: التواصل مع الآخرين حول التحديات والمشاعر يمكن أن يكون له تأثير إيجابي كبير على الصحة النفسية، لذلك من المهم أن يحيطوا أنفسهم بدعم اجتماعي قوي سواء من الأصدقاء أو الزملاء.
رابعا: يمكن للصحفيين تعلم كيفية إعادة صياغة الأفكار السلبية لتصبح أكثر منطقية وإيجابية، يساعد ذلك في تقليل مشاعر القلق والاكتئاب التي قد تنشأ نتيجة العمل في ظروف قاسية.
خامسا: كما أنصحهم بقضاء وقت بعيدًا عن ضغوط العمل من خلال إدراج وقتًا للراحة وممارسة الأنشطة التي تعزز شعورهم بالاسترخاء في روتينهم اليومي، فهذا يساعدهم في العودة للعمل بشعور أفضل وطاقة أكبر .
اخيرا: طلب المساعدة من مختصين في الصحة النفسية عند الحاجة، فالعلاج النفسي يمكن أن يقدم أدوات فعالة للتكيف مع الضغوط النفسية.
موارد للصحفيين
مركز دارت للصحافة والصدمات : يعد الموقع الإلكتروني كنزًا من المعلومات والنصائح حول تغطية المآسي المختلفة وإدارة التوتر وممارسة الرعاية الذاتية .
البداية القوية… نحو مسيرة مهنية رائعة: تجنب الإرهاق: استخدم هذه النصائح لتجنب إرهاق نفسك، على المستوى المهني والشخصي.
الصدمة والصحافة: دليل عملي : يقدم الكتيب المكون من 31 صفحة، الذي أصدره مركز دارت للصحافة والصدمات، إرشادات للصحفيين والمحررين والمديرين حول التعامل مع المواد المؤلمة وما يمكنهم فعله لرعاية أنفسهم أثناء تغطية القصص المؤلمة.
مجموعة أدوات الصحة العقلية والصحافة : مجموعة من الموارد لمعالجة قضايا تتراوح من اضطراب ما بعد الصدمة إلى العافية الرقمية، والتي جمعتها شبكة الصحفيين الدوليين
رابطة أخبار الإذاعة والتلفزيون الرقمية (RTDNA): لدى الرابطة العديد من المقالات حول إدارة الصدمات في غرفة الأخبار وإضافة ممارسات الرفاهية إلى خطة الكوارث الطبيعية في غرفة الأخبار .
مساق إدارة القلق والصدمات النفسية من شبكة أريج :تقدّم هذه الدورة إسنادا في مجال الصحّة العقلية للصحفيين، الناشطين الاجتماعيين والعاملين في حقل الإعلام العربي بشكل عام. وتستهدف تزويد هذه الفئات بمعلومات عمليّة حول كيفيّة التعامل مع الصدمات النفسية والاضطرابات.
ريما حسن
أخصائية نفسية ومنسقة مشروع الأشخاص ذوي الإعاقة البصرية في منصة شييك
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي شييك وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً