كيف يحول الإعلام اللبناني معاناة النساء إلى تصويب سياسي

image
الصورة مولدة بتقنية الذكاء الاصطناعي
2025-08-31

ناهلة سلامة 

"أنتِ تحت المجهر لمجرد إنك إمرأة" هذه الفكرة تلازمني كلما رغبتُ في التعبير بصراحة، أو قيادة السيارة، أو حتى انتظار تاكسي. يبدأ الرقيب الداخلي بالعمل ما أن أخرج من قوقعتي  لأواجه المجتمع، فأجد نفسي مضطرة إلى الانتباه الدائم لسلامتي الشخصية وتفادي أي مشكلة، وصولًا إلى القلق من التعرض للسرقة.  يكفي أحيانًا أن تكون كلمة عابرة على الطريق، أو انتقادًا على قيادة سيارتي ببطء أو تحرشًا من سائق تاكسي يمنح نفسه الحق بقول كلمات الغزل أو الشكوى من منزله. لأتسأل، ما الذي يجبرنا نحن النساء على تحمُّل كل هذا؟ وغالبًا لا خيار سوى النزول من التاكسي قبل اكمال مشواري.

قد يبدو هذا الحدث بسيطًا أو عابرًا، لكنه يختصر واقع نساء كثيرات في لبنان اللواتي يواجهن أشكالًا مختلفة من العنف في الأماكن العامة، بين من تختار أن تخبر بما جرى ومن تفضل الصمت، وحين تُنشر هذه اليوميات على مواقع التواصل، سرعان ما تتحول إلى مادة للتنكيت والتنمر ولوم النساء على ما تعرضن له، او إلى مادة دسمة للنشر على منصة اخبارية تشعل التحريض الطائفي والسياسي في لبنان. هكذا تتحول معاناة النساء إلى أداة لتصفية الحسابات، فنشهد على عنف آخر يُضاف إلى ذاك الذي تعرضن له في يومهن.

في هذا السياق، اخترتُ التوقف عند خبر نشرته  منصة "ليبانون ديبايت" بتاريخ 29 آب 2025 يفيد بتعرض سيدة وابنتها للاهانة من قِبل شرطي وهما يعبُران الطريق عند اشارة غاليري سمعان. فالخبر بحد ذاته صادم، وما تعرضتا له من إهانة وتحريض على القتل غير مقبول،  وعلى الدولة أن تحاسب الشرطي وتقدم اعتذارًا رسميًا لهما عن الاساءة والتحريض والاهانة. فالخطر الذي أتحدث عنه يتكرر بشكل واسع على النساء أينما وجدن، ويعيد السؤال ذاته "من يحمي النساء في لبنان من العنف المتكرر؟".  لكن في المقابل أصبح الخبر مادة للاستغلال حيث قررت المنصة نقل الخبر على طريقتها، بما أن الخبر هو في منطقة محددة، وتحويله من قضية حقوقية وأخلاقية إلى مادة طائفية وتصويب سياسي. 

 

من التهديد إلى اللباس 

يُظهر الخبر بطريقة واضحة الطابع التحريضي بدءً من العنوان "حادثة خطيرة في بيروت برسم وزارة الداخلية… شرطي "عنصري" يحرّض على جريمة قتل!".  لينتقل إلى متن الخبر، عبر ادراج عبارة قالها الشرطي: "امشوا، فيكن تضربوها… في منّا كتير"، لتُقرأ في سياق طائفي. بما أن المقال وصف بشكل مباشر لباس السيدة الشرعي، ليكمل عبارته "عكَس انتماءها إلى الطائفة الشيعية"، ما وصفه بأنه "رسالة بالغة الخطورة في بلد يقوم على توازن دقيق بين 18 طائفة". ليختم تحليله، أن "الكلمات التي قالها الشرطي لامست حدود العنصرية والطائفية، في وقت تعيش فيه الطائفة الشيعية ضغوطًا متزايدة مرتبطة بملف حصرية السلاح بيد الدولة" ليربط الاعتداء بالانتماء الطائفي والسلاح، لا كاعتداء على مواطنة في الشارع. 

يُظهر المقال مستويات متعددة من خطاب الكراهية والتضليل. حيث يبدأ بالتنميط حين اعتبر أن اللباس يُشكلّ هوية لطائفة معينة دون النظر إلى السيدة وابنتها كأفراد من المجتمع لهما حقوق وكرامة. ثم ينتقل إلى التمييز، حيث محى حقهما كمواطنتان تعرضتا لعنفٍ لفظي وتحريض في الشارع، وحوّر ما جرى على أنه قضية سياسية وطائفية. ومن هنا، يُغفل البُعد الأعمق، العنف البنيوي الذي تتعرض له النساء بمجرد وجودهن في الفضاء العام، والتبرير له عبر إعادة  تصوير الناجيات كرموز "طائفية"، لا كنساء يواجهن عنفًا يوميًا. في حين لا يمكن اختزال ما قاله الشرطي كتحريض. طائفي فقط، بل هو جزء من منظومة متكاملة تشرعن تعرض النساء للتحقير والتهميش والعنف ضد النساء. وبناءً عليه يبقى المطلوب تطبيق القانون ومحاسبة الفاعل على تحريضه العلني ضد مواطنة لبنانية بالقتل. 

إن ما جرى ليس حادثًا عابرًا، بل يعكس سياقًا متكاملًا من العنف ضد النساء، يبدأ من النكات والتنميط، ويمتد الى التمييز والتحريض والتنمر وصولًا إلى حملات تشويه السمعة، التي تنتشر بشكل واسع على صفحات التواصل الاجتماعي لتمتد إلى الشارع والأماكن العامة. التغاضي عن هذا السياق الأساسي للعنف لا يلغي أسبابه البنيوية، كما أن تحويله إلى تصويب سياسي وطائفي يضاعف من خطورة ما تتعرض له النساء. 

فالمطلوب اليوم إعادة ضبط الخطاب الإعلامي، ووضع الحوادث ضمن سياقها الحقيقي، بعيدًا عن الأهداف السياسية أو العنصرية أو الطائفية. ومن دون تحويل حكايات النساء ومعاناتهن إلى مادة للتحريض. كما أن الالتزام بميثاق الشرف الاعلامي، لم يعد خيارًا بل ضرورة، إذ تنص المادة 13 منه على تجنُّب التشهير والتحريض والتمييز، وعلى تقديم المعلومات بدقة وشفافية وموضوعية. والأهم أن يمارس الإعلام دوره الأساسي في حماية النساء  من التحريض وخطابات الكراهية، لا في إعادة إنتاجها.