لبنان
شييك: ميرا عيسى
يُعدّ الإعلام من أبرز الأدوات المؤثرة في تشكيل الوعي الجمعي وتوجيه الرأي العام، غير أنّ هذه القوة قد تتحوّل إلى سلاحٍ ذي حدّين عندما يتجاوز الإعلام دوره التنويري إلى دورٍ تحريضي، يُغذّي الإنقسام ويؤجّج الكراهية.
في ظل الأزمات السياسية والاقتصادية المتزايدة في لبنان، وتصاعد الانقسامات المجتمعية، يتحول الإعلام إلى أداة تزيد من حدّة الصراعات عبر برامج تلفزيونية ومنصات رقمية تستخدم خطابات تحريضية ولغة طائفية و إهانات شخصية. هذا السلوك يعمّق الانقسام ويغذي الكراهية في أوقات النزاع، ما يطرح ذلك تساؤلات جدية حول مسؤولية الإعلام اللبناني في دعم الوحدة الوطنية بدلاً من تعزيز الفتنة.
فإلى أي مدى تساهم البرامج اللبنانية بالتحريض ونشر الكراهية؟
كيف تروّج البرامج لخطاب الكراهية؟
لإعداد هذا التقرير، اعتمدت معدة التقرير على مؤشر "شييك" لتحليل وتحديد البرامج اللبنانية التي تروّج لخطاب الكراهية، حيث رصدت مجموعة من البرامج التي تُعرض على التلفاز والمنصات الرقمية مثل "يوتيوب". من بين هذه البرامج، برز كل من:
- "هيستي-ايستي" للإعلامي علي برو على "يوتيوب".
- "صار الوقت" مع مارسيل غانم على شاشة MTV.
- "حكي صادق" بتقديم الإعلامية ديما صادق.
وأظهرت نتائج التحليل أن هذه البرامج، رغم تنوعها بين الكوميديا الساخرة والنقاش السياسي والتحليل الإعلامي، تتشابه في استخدام خطاب طائفي واستفزازي يعمّق الانقسامات الاجتماعية ويغذي التوترات داخل المجتمع اللبناني.
"هيستي-إيستي"
هو برنامج لبناني ساخر يقدمه الإعلامي علي برو عبر "يوتيوب". يعتمد البرنامج على الكوميديا السياسية والاجتماعية، ويتناول في كثير من الأحيان مواضيع ذات طابع طائفي. يُقدم بأسلوب سريع وجريء، لكن محتواه يتعدى حدود النقد إلى التهكم والازدراء.
انطلق البرنامج في 16 مايو/ أيار 2025، وحقق حوالي 966,069 مشاهدة، مع ما يقارب 11.9 ألف مشترك في القناة.
أجرت معدة التقرير تحليلًا لعينة عشوائية من الحلقات المعروضة، ركّزت فيها على حلقتين بارزتين مثّلتا نماذجًا لخطاب تجاوز حدود النقد السياسي إلى التهكم والتحقير الشخصي.
في 28 أغسطس/ آب 2025، نُشرت الحلقة التاسعة بعنوان "التيس والخائن والطبل"، التي استُهدف فيها وزير الخارجية اللبناني يوسف رجّي، ورئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل، والناشط إبراهيم صقر. هنا
أظهر التحليل أن اللغة المستخدمة تجاوزت حدود حرية التعبير والنقد السياسي البنّاء، إذ كانت مليئة بالسخرية الجارحة وعبارات تمس الجانب الشخصي.
من الثانية 16 إلى 2:15، استُخدمت كلمات مثل "تيس"، "شحاد"، "نوري أندبوري"، و"وزير المتحرشين"، وهي عبارات مسّت كرامة وزير الخارجية يوسف رجّي.
وفي الفترة من 2:16 إلى 4:04، وُصف جبران باسيل بكلمات مثل "خائن" و"لو ما السلاح كان كبيرك بسطة ليموناضة بالبترون".
أما بين 4:00 إلى 6:50، فقد تعرض إبراهيم صقر للتنمر بوصفه بـ"طبل".
وفي 21 أكتوبر/تشرين الأول 2025، عُرضت حلقة بعنوان "المقاوم بشير الجميّل"، أثارت ردود فعل متباينة. رأى بعض المتابعين أن الإعلامي علي برو تجاوز حدود النقد حين تناول شخصية مسيحية رمزية وقائدًا سياسيًا، مما مسّ بالاحترام العام، بينما اعتبر آخرون أنها تندرج ضمن حرية التعبير. هنا
أظهر التحليل أن الخطاب في الحلقة تخطى حرية التعبير والنقد السياسي، مع استخدام تهكّم شخصي ولغة استفزازية.
من الثانية 22 إلى الدقيقة 3:00 استُخدمت عبارات مثل "يا معوّدين ع الشلح"، و"هيك بتبني دولة بالشحادة"، التي مستَت كرامة رئيس حزب الكتائب سامي الجميّل.
ومن 3:00 إلى 3:58، استُهزئ بالنائب نديم الجميّل بعبارات مثل "أنت عايش بال seven sisters"، و"نحنا شايفين البلد شقفة وحدة مش متلكن".
أما بين 4 إلى 8 دقائق، فقد وُجهت عبارات مهينة للرئيس الراحل بشير الجميّل مثل "الصنديد البطل" و"كنتوا دبّاحين عالهوية".
عكست هذه العبارات نبرة استهزاء، محوّلة الحلقة إلى نموذج صريح على الانتقال من النقد السياسي إلى خطاب مهين يثير الانقسامات الطائفية.
في الحلقة السابعة التي نُشرت بتاريخ 15 أغسطس/ آب 2025، والتي يمكن الاطلاع عليها هنا، عبّر علي برو بشكل واضح عن دعمه لسلاح حزب الله، معتمداً لغة تحمل إهانة صريحة للطائفة المسيحية. التحليل يكشف أن الخطاب لم يقتصر على التعبير عن موقف سياسي، بل تعداه إلى تحويل الخلافات السياسية إلى صراعات طائفية حادة.
من الثانية 6 إلى الدقيقة 4:45، استخدم علي برو عبارات مثل "مسيحي مش مركب شطافة" و"يا ابن البطة السوداء"، التي لا تقتصر على انتقاد الأفكار أو السياسات، بل تستهدف بشدة الطائفة برمتها، مما يعزز خطاب الكراهية ويعمّق الانقسامات الطائفية في السياق اللبناني الحساس.
دلالات اللغة المستخدمة
في الجدول المرفق، نقدم تحليلًا للكلمات التي تعبّر عن خطاب الكراهية في الحلقات السابقة، موضحين دلالاتها وكيفية استخدامها لتعزيز الانقسامات الطائفية، وللتأثير السلبي على المشهد الاجتماعي والسياسي اللبناني.
الكراهية في البرامج الحوارية: "المقدمات" نموذجا
تلعب بعض البرامج الحوارية اللبنانية دورًا في تشكيل وعي الجمهور، لكنها تساهم أيضًا في تعزيز الكراهية. حيث تُكتب مقدماتها غالبًا بأسلوب يثير المشاعر الطائفية، مما يوجه النقاش نحو الانقسام ويشعل التوتر بين المتابعين قبل بدء الحلقة.
"صار الوقت"
برنامج "صار الوقت" هو برنامج تلفزيوني حواري سياسي أسبوعي يُعرض على شاشة "إم تي في" اللبنانية، ويُقدّمه الإعلامي مارسيل غانم. يهدف البرنامج إلى مناقشة أهم القضايا مع مشاركة الجمهور في الاستديو .
برنامج "صار الوقت"، الذي يقدّمه مارسيل غانم على شاشة "إم تي في" اللبنانية، يبرز في مقدماته خطاب كراهية واضح تجاه "محور المقاومة" والنواب المعارضين.
في الحلقة الثالثة من الموسم الثامن بتاريخ 9 أكتوبر/ تشرين الأول 2025، استخدم مارسيل غانم عبارات مثل "دحرج محور المقاومة" لتعزيز صورة الانهيار، ووصف حماس بأنها "فاقدة للشرعية" بقول "أول اتفاق يُقصي حماس ويرغمها على توقيع اتفاق مع إسرائيل".
كما وصّف حزب الله بأنه "قوة غير شرعية" تفرض إرادتها "رغم الدولة". واستخدم تعبير "صاحب القضية استسلم" لتجريد المقاومة من قيمها النضالية.
دعا من الدقيقة 1:00 إلى 3:10 إلى "السلام مع إسرائيل"، واعتبر رفض المقاومة للتطبيع "عائقًا"، مستخدمًا عبارات مثل "سيخرج منافقون" لتشويه خصوم التطبيع، وتصوير جمهور المقاومة على أنه يعيش "وهمًا" و"إنكارًا للواقع".
أما في الحلقة 35 من الموسم السابع بتاريخ 3 أبريل/ نيسان 2025، انصب الخطاب على نواب التغيير، حيث استخدم مارسيل عبارات ساخرة مثل "لا طائل الحديث معكم" و"نقوص على بعض الوزراء"، مستهجناً نشاطهم وموصماً جهودهم الإصلاحية بـ"البهلويات". وصف الانتخابات بأنها "بدأت معركتها عند صغار النفوس" لتقليل مصداقيتهم.
في الفترة الممتدة بين 2:10:40 و2:35:10 من الحلقة، شنّ الإعلاميان مارسيل غانم وجو معلوف، هجومًا مباشرًا على جمعية "كلنا إرادة" ونواب التغيير، مستخدمين معلومات غير موثوقة عن تمويل الجمعية لنواب التغيير، مما يعد تضليل بسبب غياب مصدر موثوق لهذه المعلومات. فقد وصفوهُم بـ"شبكة عنكبوتية" و"النواب الأشاوس" و "مجموعة تخريبية" بهدف تكريس صورة التشكيك في نزاهتهم.
كما استخدم معلوف عبارات تحقيرية مثل: "جمعية كلنا إرادة هيّي ل مولتهم"، "كلنا إرادة استعملت المتظاهرين وكبتهم"، "يسار متطرف"، و"كذبوا على الرأي العام"، وهي تعبيرات تُظهر ازدراءً وتشويهًا متعمّدًا.
وقد ردّ على ذلك تسعة من نواب كتلة التغيير عبر خطوة قانونية، إذ وجّهوا كتابًا رسميًا إلى إدارة قناة MTV مطالبين بحق الردّ وفق أحكام قانون البثّ التلفزيوني والإذاعي، معتبرين ما ورد في الحلقة تضليلًا وتشويهًا ممنهجًا للوقائع.
"حكي صادق"
برنامج حكي صادق الذي يُعرض على شاشة إم تي في اللبنانية وتقدمه الإعلامية ديما صادق، يتسم بأسلوب نقدي وتحليلي في تناول الأحداث السياسية والاجتماعية. إلا أن التحليل العميق لبعض حلقاته يكشف وجود خطاب يحمل أبعادًا طائفية ونمطية تجسد خطاب كراهية موجه لجماعات محددة، خصوصًا البيئة الشيعية واللاجئين السوريين.
في الحلقة الأولى من الموسم السادس التي عُرضت بتاريخ 22 أكتوبر/ تشرين الأول 2025، هنا، يتضح استخدام خطاب ساخر وتمييزي تجاه حزب الله والتيار الوطني الحر، إذ وُصفا بين الدقيقتين 13:00 و 21:23 بـ "كوميديا" و "كاريكاتور"، مما ينطوي على تهكّم يقلل من قيمتهما السياسية والاجتماعية.
ويزداد الخطاب حدّة، إذ يشمل اعتبار البيئة الشيعية "الجانب العقلاني في هذه العقيدة مفقود" ووصفهم بأنهم "حالة شاذة" بين الدقيقتين 28:15 و33:00، وهو تصوير يعكس تحاملًا دينيًا سلبيًا يكرّس الاستقطاب الطائفي. كما تأخذ الإساءة شكلًا مباشرًا مع وصف هذه البيئة بـ"المرض" ما بين 39:00 و40:00، وهو تعبير محفّز للكراهية والتمييز.
بينما تناولت الحلقة 15 من الموسم الرابع بتاريخ 13 مايو/أيار 2024 هنا، أزمة اللاجئين السوريين في لبنان، فقد رافق التناول الإعلامي خطابًا يحول اللاجئين إلى أرقام مجردة، وهو ما تجلى في استخدام تعبير "الكتلة البشرية" في الدقيقة 12:58، مشوّهًا إنسانيتهم ومحوّلًا إياهم إلى عبء يتكاثر بلا وجه محدد.
إضافة إلى ذلك، استُخدم تعبير "السوريين صاروا قد نصف الشعب اللبناني" بدون استناد لإحصاءات رسمية، ما يُعد تضليلًا إعلاميًا يزيد من تنامي السرديات المجتزأة التي قد تؤجج التوترات الاجتماعية.
في الحلقة 5 من الموسم الخامس، بتاريخ 3 فبراير/ شباط 2025، هنا تتكرر الممارسات الإعلامية المضللة مع اتهامات لحزب الله بتصفية المفكرين اليساريين في الجنوب، دون تقديم دليل رسمي، ما يذهب إلى إطار التضليل. كما نُسبت له أعمال عنف باستخدام عبارات مجازية مثل "قبل السحسوح وبعد السحسوح"، مما يعزز ربط الجماعة بالعنف بشكل مبسط وشائع.
أما التحية الموجهة للمعارضة الشيعية شملت عبارات تمس العقيدة الدينية، مثل القول "لينتصر بالحرب هو صاحب الطائرة ومش صاحب الزمان"، ما يبرز أبعاد الاستهداف الطائفي الديني في الخطاب الإعلامي.
هذا الرصد يؤكد أن برنامج حكي صادق، رغم مكانته كمنبر تحليلي، يستخدم في بعض حلقاته خطابًا يكرس الانقسام الطائفي ويستهدف جماعات بعينها بعبارات وصور نمطية تحقيرية، ما يندرج تحت إطار خطاب الكراهية الذي يهدد التعايش الاجتماعي ويرتبط بإثارة التحريض والتوتر في المجتمع اللبناني. هذه النتائج تحث على ضرورة مساءلة محتوى الإعلام، وتعزيز المسؤولية المهنية لنشر خطاب متوازن يراعي التنوع والاحترام بين مكونات المجتمع.
دلالات اللغة المستخدمة
في الجدول المرفق، نستعرض الكلمات التي تعبر عن خطاب الكراهية مع شرح دلالاتها وتأثيرها السلبي داخل النصوص الإعلامية.
مخالفة مهنية
يرتكب الإعلام مخالفة مهنية عندما يتحول النقد الإعلامي إلى أداة للتحريض، إذ إن استخدام كلمات تمس جماعة معينة يخرج عن حدود حرية التعبير ويدخل في نطاق خطاب الكراهية. ما ورد في هذه البرامج يُعد مخالفات واضحة لأحكام القانون وميثاق الشرف الإعلامي الذي ينص في المادة 2 على "التزام العمل على تأكيد الوحدة الوطنية والعيش المشترك، والتزام احترام الأديان وعدم إثارة النعرات المذهبية أو الطائفية أو التحريض على العصيان العنيف أو ارتكاب الجرائم والامتناع عن عبارات التحقير".
من الناحية القانونية، تُعد العبارات التي تتضمن تحريضًا طائفيًا مخالفة صريحة للمادة (317) من قانون العقوبات اللبناني، التي تُجرم كل من يثير النعرات المذهبية أو العنصرية أو يحضّ على النزاع بين الطوائف ومختلف عناصر الأمة. وتنص المادة على:
"كل عمل وكل كتابة وكل خطاب يقصد منها أو ينتج عنها إثارة النعرات المذهبية أو العنصرية أو التحريض على النزاع بين الطوائف ومختلف عناصر الأمة يعاقب عليه بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات وبالغرامة من مئة ألف إلى ثمانمائة ألف ليرة".
هذا التأطير القانوني يؤكد مسؤولية الإعلاميين في تفادي استخدام خطاب يحرض على الكراهية والعنف، ويلزمهم بالالتزام بمعايير المهنة والأخلاقيات الإعلامية.
خطة عمل الرباط
تنص خطة عمل الرباط على ضرورة مكافحة خطاب الكراهية وتؤكد الخطة على أهمية مساءلة وسائل الإعلام عند نشرها محتوى يحرض على التمييز. كما تدعو إلى تجنّب اللغة التي تُثير الكراهية، بما يتوافق مع القوانين الوطنية والمعايير الدولية لحقوق الإنسان.
النتيجة
أظهرت النتائج أن بعض البرامج التلفزيونية اللبنانية تستخدم خطابًا طائفيًا وتحريضيًا يستهدف جماعات محددة، مما يعزز الانقسامات ويغذي التوتر والكراهية. هذا الخطاب لا يهدد فقط القيم الإعلامية، بل ينتهك القوانين وأخلاقيات المهنة، ويقوض التغطية المتوازنة ويهدد وحدة المجتمع اللبناني.